التكافل الاجتماعي في الإسلام وأثره في القضاء علي البطاله والفقر (2)










صور التكافل الاجتماعي في الإسلام 


استعرضت في الموضوع السابق مفهوم التكافل الاجتماعي في الإسلام ومجالاته وأهم صوره وبهذا أكون قد بينت الخطوط العامة لهذا التكافل وفي هذا الموضوع أحاول أن أركز علي بعض الفئات المستهدفه بالتكافل الاجتماعي

ومن هذه الفئات :


كفالة كبار السن وأصحاب العاهات والعجَزة والمَنكوبين:

وكفالة هؤلاء تدخل في نطاق قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [آل عمران: 134] ، وقوله تعالى أيضًا: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ﴾[المائدة: 2]  ، وفي نطاق قوله - عليه الصلاة والسلام -: ((المسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه، ولا يُسلمه، مَن كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته، ومَن فرَّج عن مسلم كربة، فرج الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة، ومَن ستَر مُسلمًا، ستره الله يوم القيامة)) متفق عليه.
وفي مقابل التضحيات التي قدمها كبار السن من أجل إسعاد الجيل الذي ربوه ورعوه وحرصوا علي تنشئته تنشئة سليمة وجه الإسلام عناية خاصة لهم وهذه العناية موجه بصفة خاصة إلي الأبناء أولا قال تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً﴾ [الأحقاف: 15].
ويقول تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً﴾ [الإسراء: 23]، فمسئولية الأبناء عن بر الآباء ورعايتهم مسئولية إلزامية ديانة وقضاء، بمعنى أن أوامر الدين توجب على الأولاد وتلزمهم بها، فإذا قصروا فيها ألزمهم بها القضاء، ولو كان دينهما مختلفاً عن الأبناء، فإن ذلك لا يسقط حقهم ولا يلغي تلك المسئولية، قال تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً﴾ [لقمان: 14- 15]، وإذا لم يكن لهم أبناء انتقلت المسؤولية عنهم إلى المجتمع، ممثلاً في الدولة بصورة إلزامية.
ومما يعزز ذلك ما تزخر به النصوص من ترغيب في الخير وفي الإحسان إلى الآخرين وخاصة العاجزين، بما فيهم كبار السن، والذي ينشئ في النفس المؤمنة دافعاً تلقائياً إلى بذل الخير طواعية في تلك الوجوه.
والرعاية لكبار السن لا تقف عند الجانب المادي بل يدخل فيها الجانب النفسي والعاطفي، الذي هم أشد حاجة إليه قال تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً﴾ [الإسراء: 23- 24].
وقال صلى الله عليه وسلم: «ليس منّا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا» أخرجه الترمذي 1919.

وهذه الرعاية لا تقتصر علي كبار السن من المسلمين فقط وانما تشمل غيرهم

ومما يدل علي ذلك : في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، كتب خالد بن الوليد رضي الله عنه في عقد الذمة لأهل الحيرة بالعراق -وكانوا من النصارى-: (وجعلت لهم أيما شيخ ضعف عن العمل، أو أصابته آفة من الآفات، أو كان غنيًّا فافتقر، وصار أهل دينه يتصدقون عليه، طرحت جزيته، وعيل من بيت مال المسلمين هو وعياله)  كتاب الخراج لأبي يوسف ص157 .
- وأوصى عمر رضي الله عنه الخليفة من بعده بأهل الذمة أن يُوفَى لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم وأن لا يكلفوا فوق طاقتهم  رواه البخاري 1392 .
- وذبحت لعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، شاة في أهله، فلما جاء، قال: أهديتم لجارنا اليهودي؟ أهديتم لجارنا اليهودي؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنَّه سيورثه))  رواه ابوداود 5152 وصححه الألباني في الترغيب والترهيب 2574.
- وفي خلافة عمر بن عبد العزيز رحمه الله كتب إلى عدي بن أرطأة: (وانظر من قبلك من أهل الذمة، قد كبرت سنه، وضعفت قوته، وولَّت عنه المكاسب، فأجر عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه) الأموال للقاسم بن سلاَم ص56

• وأصحاب العاهات هم الذين فقَدوا عضوًا مِن أعضائهم، أو خرجوا إلى الحياة ببِنيَة هزيلة، وذلك مثل العميان، والصَّرعى، والمعَتوهين، وأصحاب العيوب الكلامية، والأمراض المُزمنة، وأمراض الشيخوخة.
فيجب أن تتظافر جهود المجتمع في تحقيق التكافل والعيش الأفضل لمثل هؤلاء المحتاجين، حتى يشعروا بالرحمة والتعاون والعطف، وأنّهم محلّ العناية والاهتمام الكامل في نظر الناس والمجتمع على السواء.
ورعاية هذه الشرائح تقتضي إقامة الدور الصالحة لإقامتهم، وتغذيتهم، والإشراف عليهم، فإذا كانوا يُقيمون مع أهلهم، فإن دور رعايتهم تقوم بتعليمهم العلوم النافعة والمِهَن المناسبة، أما الشيوخ والمنكوبون، فيَنبغي أن يلقوا الرعاية المعنوية والمادية المناسبة؛ لأنه لا يَصلح في الإسلام أن يعيش المسلم لنفسه وأولاده وأرحامه، تاركًا مساحة الحياة الاجتماعية لا يتعاطف معها ولا يهتمُّ بأمرها؛ لأن مثل هذا المسلك يَتعارَض مع قوله - عليه الصلاة والسلام -: ((ترى المؤمنين في تراحمهم وتعاطفهم وتوادهم كمثل الجسد الواحد؛ إذا اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) رواه البخاري في الأدب المفرَد.




كفالة اليتيم:

واليتيم مَن مات أبوه وتركه صغيرًا ضعيفًا يحتاج إلى مَن يكفله، وقد اهتم الإسلام باليتيم اهتماماً بالغاً، من ناحية تربيته، ومعاملته والحرص على أمواله وضمان معيشته، حتى ينشأ عضواً بارزاً في المجتمع، ويقوم بمسؤولياته على أحسن وجه وقد ورد في الحث على كفالة الأيتام والعناية بهم ما يبعث في نفس المؤمن دافعا قويا إلى ذلك , إضافة إلى المسؤولية الواجبة والتي تطالب الدولة , ممثلة في المجتمع , بالقيام بهذه الكفالة ؛ فقال تعالى: ﴿ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ ﴾ [الضحى: 9]، وقال: ﴿ كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ [الفجر: 17]، وقال: ﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ﴾ [الماعون: 1، 2]، وقال: ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [الأنعام: 152]، وقال: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ﴾ [النساء: 10]. ، {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ}
وفي الحديث الشريف أنه - عليه الصلاة والسلام - قال: ((أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين))، وأشار بإصبعيه؛ يعني: السبابة والوسطى ، مستدرك الوسائل، ج 474، 2، باب استحباب مسح رأس اليتيم..
وإذا تصفحنا تاريخ الإسلام وجدنا أن كثيرا من عباقرة الإسلام والمبدعين على أكثر من صعيد كانوا قد فقدوا آباءهم وهم صغار وما ذلك إلا نتاج ملموس للتوجيهات والسياسات الإسلامية في هذا الصدد والتي أصبح المجتمع يقوم بها بشكل طوعي وتلقائي حتى في الأوقات التي تتخلى فيها الدولة عن واجبها فإن هذه العناية لم تغب إذ قام بها المجتمع وأقام لها من المؤسسات الخيرية ما يلبي حاجتها  ومن مظاهر العناية التي أولاها الإسلام للأيتام حفظ أموالهم والسعي في تنميتها والابتعاد عن كل تصرف ضار بها {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} ، {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} , {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} , {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} , كما دعا إلى استثمارها والإنفاق عليهم {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} ، {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا}
ورعاية اليتيم وكفالته واجبة في الأصل على ذوي الأرحام والأقرباء، ويجب على المسلمين أن يتعاونوا فيما بينهم لإقامة دُور لرعاية الأيتام، لتشرف المؤسسات الإسلامية على تربيتهم والإنفاق عليهم، ويكون ذلك أبعد لهم عن الانحراف والتشرّد والضياع. وتساهم كفالة اليتيم في بناء مجتمعٍ سليم خالٍ من الحقد والكراهية، وتسودُهُ روح المحبّة والودّ..
وهذا يوجب على المسلمين استحداثُ آليات وصور تطبيقية في محيطهم الإسلامي، ولا سيما في بلاد الاغتراب لرعاية اليتامى؛ حتى لا يلتقطه أعداء الإسلام، فعليهم افتتاح الدور لرعاية الأيتام تحت إشراف المراكز والمؤسسات الإسلامية والجمعيات الخيرية والقائمين على شؤون المساجد.



كفالة الفقراء والمساكين :

وللفقراء والمُعوِزين حق في مال الأغنياء، إلى أن يكتفوا إذا لم تَكفِهم الزكاة المفروضة، ويقول الإمام أبو محمد علي بن حزم - المتوفى سنة: 456هـ - في موسوعته الفقهية "المحلى" عن ذلك: "وفرض على الأغنياء مِن أهل كل بلد أن يقوموا بفُقرائهم، ويُجبرهم السلطان على ذلك، إن لم تقم الزكاة بهم، ولا في سائر أموال المسلمين بهم، فيُقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لا بدَّ منه، ومن اللباس للشتاء والصيف بمثل ذلك، وبمسكن يُكنُّهم مِن المطر والصيف والشمس وعيون المارة".

وقال ابن حزم: "ولا يحل لمسلم مُضطر أن يأكل ميتة أو لحم خنزير وهو يجد طعامًا فيه فضل على صاحبه لمسلم أو لذمي؛ لأنه فرض على صاحب الطعام إطعام الجائع، فإذا كان ذلك كذلك، فليس بمُضطر إلى الميتة ولا إلى لحم الخنزير، وله أن يقاتل عن ذلك، فإن قتل المانع، فإلى لعنة الله؛ لأنه منَع حقًّا وهو طائفة باغية" المحلى، ج 6، كتاب الزكاة، مسألة (725).
إن النصوص الإسلامية ذاخرة بالحض على كفالة الفقراء والمساكين ومشاركتهم آلامهم وتنفيس الكرب عنهم وبذل العون لهم ماديا ومعنويا.
إن الإسلام في مواجهة المشكلات الاجتماعية يفرض الحد الأدنى لاستقامة الحياة وجريانها على الصلاح ثم يفتح المجال أمام التطوع والإحسان مع الترغيب فيه والحث عليه وبيان ما ينتظر صاحبه من جزاء في الدنيا والآخرة. وكما هو شأن الإسلام في مواجهة مشاكل الحياة والاجتماع فإننا نجده يسلك نفس السلوك في مشكلة الفقر ففي الوقت الذي يفتح فيه فرص العمل أمام الجميع ويزيل العقبات والعراقيل أمام الفقراء ليعملوا فإنه يفرض على المجتمع المسؤولية الكاملة عن فقرائه الذين لا يجدون عملا أو لا تتسع مواردهم للوفاء بحاجتهم وذلك من خلال فريضة الزكاة التي تتمثل في قيمة 2,5 % من ثروة المجتمع تجنيها الدولة كل سنة لتردها على الفقراء والمساكين وغيرهم من مصارف الزكاة الذين حددهم الله تعالى في القرآن الكريم بقوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} . كما يعلن مسؤولية الدولة عن توفير العمل لمن لا يجد عملا وإيجاد ميادين العمل وفتح أبوابه أمام العاطلين, بل إنه يجعل للإمام في الحالات التي يهدد فيها التوازن الاجتماعي وتميل فيه الكفة نحو احتكار المال في أيد محدودة يجعل له الحق في أن يعيد الأمور إلى نصابها ويتخذ من الإجراءات ما يراه كفيلا بإعادة التوازن إلى المجتمع , ثم يفتح بعد ذلك الطريق أمام التطوع والإحسان ويحض عليه ابتغاء الدار الآخرة والثواب من الله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ} , {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} ، {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}

حق الجار:

والقرآن الكريم يقول في حق الجار: ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ ﴾ [النساء: 36]، وقال أبو ذر الغفاري - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أوصاني خليلي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا طبختَ فأكثر المرق، ثم انظر بعض أهل البيت مِن جيرانك، فاغرف لهم منها)) رواه مسلم.
وليس الجار هو المُلاصِق - كما يظن بعض الناس - فقد روي في الآثار أن أربعين دارًا جار، وفسَّرها بعضهم بأربعين مِن كل جهة مِن الجهات الأربع، فأهل كل حي - إذًا - جيران بعضهم لبعض، قالت عائشة: قلت: يا رسول الله، إن لي جارَين، أحدهما مُقبل عليَّ ببابه والآخر ناءٍ ببابه عني، وربما الذي كان عندي لا يسعهما، فأيهما أعظم حقًّا؟ فقال: ((المقبل عليك ببابه)) انظر: مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام؛ للدكتور يوسف القرضاوي، (ص: 13).
فالإسلام يريد أن يجعل من الحي والشارع وحدةً متكاملة متعاونة؛ بحيث يَحمُون ضعفاءهم، ويُطعِمون جائعَهم، ويكسون عاريَهم، وإلا برئتْ منهم ذمةُ الله وذمة رسوله، ولم يَستحقوا الانتماء إلى مجتمع المؤمنين . المصدر السابق.

 كفالة أهل الذمة:

 ففي المجتمع الإسلامي، يمتد التكافل ليشمل المُنضوِين تحت مظلة المجتمع الإسلامي، وقد منح الإسلام أهلَ الذمة - مِن أهل البلدان التي فتحها المسلمون - حقوقًا تمنحهم الأمانَ والاطمئنان على مُعتقداتهم، إذا شاؤوا البقاء عليها، ما لم يَقفوا في وجه الإسلام بطريق أو بآخر.

وفي سلوك الرسول - عليه الصلاة والسلام - في المدينة مع اليهود، وسلوك المسلمين مع اليهود، وسلوك المسلمين بعد ذلك على امتداد التاريخ - ما يؤكد سمو المعاملة التي عُومل بها هؤلاء، ونحن نجد في كتب "النظُم الإسلامية" مثل كتاب "الأموال"؛ لأبي عبيد القاسم بن سلام، و"كتاب الخراج"؛ لأبي يوسف، و"كتاب الخراج"؛ لقدامة بن جعفر، وكتاب "الأحكام السلطانية"؛ لأبي الحسن الماوردي (د. حسين مؤنس، عالم الإسلام (ص: 295)، طبع مصر)، نجد في هذه الكتب وغيرها تفاصيلَ المعاملة النادرة السامية التي عومل بها هؤلاء الذميُّون.

ولعلَّ مِن أكبر صور السمو في المعاملة تلك الكفالةَ الاجتماعية التي ضمنها المجتمع الإسلامي لهؤلاء في حالات عَجزهم وضعفهم، وقصة عمر بن الخطاب مع اليهودي وفرضه له مالاً - راتبًا - من بيت مال المسلمين أكبرُ دليل على ذلك.


رعاية الشواذ والمُنحرفين والمُطلَّقات والأرامل:


هذه الصور مِن الشذوذ على قاعدة الحياة السوية - وربما غيرها - سواء كانت ناشئة عن عيوب اجتماعية وأخلاقية، أم ناشئة عن خلل في الحياة الأسريةأو العلاقة الزوجية، وسواء تعلقت بالرجل أو بالمرأة، أو كانت بتأثير العوامل الداخلية؛ كسوء التربية المنزلية، وإهمال الوالدين للأبناء، أو بتأثير العوامل الخارجية؛ كرفقاء السوء، أو مشاهدة الأفلام التي تحثُّ على الجنس أو الجريمة، كل هذه الحالات يجب على المجتمع المسلم - مهما كان صغيرًا أو فقيرًا - أن يَتكاتف في سبيل علاجها ورعاية أصحابها دينيًّا، وتربويًّا، وأخلاقيًّا، وماديًّا، ونفسيًّا، وفي هذه الحالات لا بد أن تتعانَق صور العلاج النفسي والروحي مع الرعاية المادية والاجتماعية، ولا بد مِن تهيئة المناخ الإسلامي المناسب، وتيسير السبُل للأعمال والنشاطات النافعة الحلال، التي تُمثِّل البديل للمناخ غير الصالح الذي كان من أسباب معاناة هؤلاء، وربما كان مِن عوامل التكافُل الاجتماعي تيسيرُ السبُل للزواج أيضًا، وللالتحاق بدروس المساجد وبدور العلم المناسبة لإمكانات هؤلاء وثقافتهم وقدراتهم الفكرية.

حقوق الضيف والغريب:


لقد حض الإسلام على إكرام الضيف وعلى إحسان ضيافته، واعتبر إكرام الضيف خلقاً كريماً يدل على صدق الإيمان وتأصله في النفس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه» أخرجه البخاري في صحيحه 5/ 2273، برقم: 5785، ومسلم في صحيحه 1/ 68، برقم: 47.، كما أكد على الإحسان إلى الغريب (ابن السبيل) -وهو الذي انقطعت به السبل ولم يستطع الوصول إلى بلده- وجعل له حقاً واجباً في الزكاة، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 60].


يتبع الجزء الثالث

شارك الموضوع

مواضيع ذات صلة

التسميات