وظيفة العمر


قال تعالي : " وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ " فحَصَر الحِكمة من خلق الجن والإنس في شيء واحد وهو: أنهم يعبدونه، فالحِكمة من خلق المخلوقات هي: عبادة الله سبحانه وتعالى، خلق الله الجن والإنس للعبادة، وخلق كل الأشياء لمصالحهم، سَخَّرها لهم ليستعينوا بها على عبادته سبحانه وتعالى وهذه هي وظيفة العمر

والعبادة كما عرفها شيخ الإسلام ابن تيمية : اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة، ونحتاج فعلاً إلى إدراك هذا التعريف الجميل، فالعبادة هي الطاعة بأنواعها المختلفة، لكنه يضع يدك على الحروف التي ربما لا ترى كل جزء من أجزائها، فالعبادة ليست فقط الشعائر العظيمة التي هي أركان الدين، بل في الحقيقة هي الأوعية التي يفرض لك فيها نصيبك من المحبة والود، والخوف من الله، ورجائه، والشوق إليه وشكر نعمه، فأنت لن تجد أفضل من الصلاة والصيام والزكاة والحج لكي تنال فضل الله عز وجل عليك في حال قلبك، هذه هي الأوعية التي تنال فيها الغذاء، فأنت عندما تحتاج إلى الغذاء لابد أن يكون لك وعاء، فإن لم يكن معك وعاء لن تأخذ غذاء، فلابد أن تأخذ الوعاء وتقف على الباب وتدقه مرات، وتقول: يا رب! أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، فيرزقك الله عز وجل ما لم يكن يخطر ببالك من أنواع الراحة واللذة والسكون، قال تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ * الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ [الرعد:28-29]، طوبى لك إن رزقك الله عز وجل عبادته، ووفقك في عبادتك له سبحانه وتعالى، ولكن كما ذكرنا هذه هي أوعية العبودية، ولابد أن تستحضر أن العبادة أوسع وأشمل من ذلك، بل هي الأركان التي يقوم عليها البناء، قال النبي عليه وعلى آله وسلم: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت)، هذه الأركان هي العبادة لكن توجد جوانب أخرى؛ ولذلك أصل هذه العبودية صلاح القلب، قال الله عز وجل: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1-2].

إذاً: من العبادة الخشوع في الصلاة، وحضور القلب فيها، قال تعالى: فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [النساء:103]، وقال سبحانه وتعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152] وقال: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه:14].

إذاً: المطلوب هو أن تذكر الله؛ ولذا قال الله عز وجل: وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45]، فالصلاة فيهما أمران كلاهما عظيم، وأحدهما أكبر وأعظم، الصلاة فيها نهي عن الفحشاء، وإبعاد لك عن مواطن الهلاك، وفيها ما هو أعظم، فيها ذكر الله، وذكر الله أعظم من النهي عن الفحشاء؛ لأن ذكر الله هو حياة الإنسان وحياة قلبه؛ ولذلك قال عز وجل لنبيه وكليمه موسى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه:14]، وقال عز وجل: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114]، إذاً: الآية هذه تضمنت نفس ما تضمنته الآية الثانية، حيث قال الله: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]، وقال هنا: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114] وشيء أعظم من ذلك كله، وهو قوله تعالى: ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114].

فالإنسان محتاج إلى حاجتين: محتاج إلى وقاية من الشر، ومحتاج إلى غذاء، والغذاء أهم، يعني: الغذاء بالنسبة له لو لم يأكل يموت، وإن أخذ بعض المضار فمن الممكن لجسمه أن يتغلب عليها، فإما أن يأكل وإن كان فيه مكروبات، وإما أن يجوع فيموت، وإما أن يشرب ماء معكراً ليس نظيفاً، أو أنه لا يشرب أبداً كذلك الذي اقترف القليل من المعاصي ولكنه يعبد ربه خير من الذي لا يعبد ربه أبداً.

فالعبادة لله هى الغاية المحبوبة له والمرضية له التى خلق الخلق لها كما قال تعالى {وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون} وبها ارسل جميع الرسل كما قال نوح لقومه {اعبدوا الله مالكم من إله غيره} وكذلك قال هود وصالح وشعيب وغيرهم لقوههم

وبذلك وصف ملائكته وانبياءه فقال تعالى {وله من فى السموات والارض ومن عنده لايستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون} وقال تعالى {ان الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون}

وذم المستكبرين عنها بقوله {وقال ربكم ادعونى استجب لكم ان الذين يستكبرون عن عبادتى سيدخلون جهنم داخرين}

ونعت صفوة خلقه بالعبودية له فقال تعالى {عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا} وقال {وعباد الرحمن الذين يمشون على الارض هونا}

والعبودية الخالصة لله هي -في واقع الأمر- عين الحرية، وسبيل السيادة الحقيقية، فهي -وحدها- التي تُعتِق القلب من رِقِّ المخلوقين، وتُحرره من الذُّل والخضوع لكل ما سِوى الله من أنواع الآلهة والطَّوَاغيتِ التي تَستعبِدُ الناس وتَسترِقُّهم أشدَّ ما يكون الاسترقاق والاستعباد، وإنْ ظهروا -صورةً وشكلاً- بمظهر السادة الأحرار!

ذلك أن في قلب الإنسان حاجة ذاتية إلى رب، إلى إلهٍ، إلى معبود، يَتعلَّق به، ويَسعى إليه، ويَعمل على رضاه، فإذا لم يَكن هذا المعبود هو الله الواحد الأحد، تَخَبَّط في عبادة آلِهةٍ شتى وأربابٍ أُخَرَ، مما يرى وما لا يرى، وممن يَعقِل وما لا يَعقل، ومما هو موجود وما ليس بموجود، إلا في الوَهْمِ والخيال.

وليس أشرف للإنسان العاقل من أن يَعبد مَن خَلقه فسَوَّاه فعَدَّلَه، ويَطرَح عبادة كل ما سواه ومن سِواه.

وليس أجلب لسعادته وسلام ضميره من تَوجيه هَمِّه إلى إلهٍ واحدٍ يَخُصُّه بالخضوع والحب، فلا تَتَوَزَّع قلبَه الآلهةُ والأرباب المُزيَّفون {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً} [الزمر: 29].

إنَّ العقل يحكم على أنَّ الباب له صانع، وأن لكل فعل فاعل، وأن لكل فاعل غاية يريد أن يصل إليها من خلال فعله، ولله المثل الأعلى في ذلك، فهو قد خلق الإنسان وسخر له ما في السماوات والأرض، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة لغاية منشودة وهي عبادته عز وجل والائتمار بأمره والانتهاء بنهيه، والإنسان يحتاج إلى عبادة ربه بمفهومها الواسع أكثر من حاجته إلى طعامه وشرابه ونفسه؛ ليعيش مطمئناً سعيداً في الدنيا الفانية، والآخرة الباقية.

والله عز وجل أخبرنا لماذا خلق الخلق فقال: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا الملك:2]، فإجابة معظم الناس لعب ولهو، والعياذ بالله، قال تعالى: وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا [الأنعام:29]، والعياذ بالله، وهذه الحياة الدنيا عندهم لهو ولعب كما أخبر الله عز وجل أنهم يلهون ويلعبون؛ ولذلك كانت إجابتهم فاشلة، وخسرانهم في الامتحان ورسوبهم فيه أكيد، إلا قلة من أهل الإيمان فهموا وأدركوا أنهم لابد أن يرجعوا إلى خالق الخلق، لابد أن يرجعوا إلى صانع الصنعة، لابد أن يرجعوا إلى الذي أحكم كل شيء وأتقن كل شيء، ولا يمكن أن يكون قد خلق هذا الكون بهذا الإحكام والإتقان ثم يتركه سدى بلا حكمة، وبلا غاية، وبلا حساب، وبلا بعث، وبلا نشور، مستحيل ذلك، لابد أن هناك إرشاداً وهداية، وبالفعل نظروا فوجدوا أن الله عز وجل برحمته أرسل الرسل وأنزل عليهم الكتب، وضمن هذه الكتب الحكمة من خلقنا، قال عز وجل: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، فجعل لهم وظيفة، وكل الوظائف لابد أن تصب فيها، ولابد أن تجتمع عليها، وجعل هذه الوظيفة طيلة أعمارهم، ليست في جانب من جوانب حياتهم فقط، وليست ديكوراً كما يريد البعض أن يجعله، يجعل هناك لوحة متكاملة، ويجعل في جانب منها عبادة الله، يجعل حياته كلها على ما يشتهي ويريد، ومن أراد من الناس أن يجعل لحياته جانباً من العبادة فهو حر، ومن أراد أن يعبد غير الله فهو حر أيضاً، والعياذ بالله.

يقول ابن تيمية: "وكل مَن استَكبر عن عبادة إلهٍ لا بد أن يَعبد غيره؛ فإنَّ الإنسان حَسَّاس يَتحرك بالإرادة، وقد ثَبتَ في الصحيح عن النبي أنه قال: (أصدق الأسماء حارثٌ وهَمَّامٌ) فالحارث: الكاسِب الفاعل، والهمَّام: فعال من الهَمِّ، والهَمُّ أول الإرادة، فالإنسان له إرادة دائمًا، وكل إرادة فلا بد لها من مُراد تَنتهي إليه، فلا بد لكل عبد من مراد محبوب هو مُنتهى حُبِّه وإرادته، فمن لم يكن اللهُ معبودَه ومنتهى حبه وإرادته، بل استَكْبر عن ذلك، فلا بد أن يكون له مراد محبوب يَستعْبِدُه غير الله، فيكون عبدًا لذلك المراد المحبوب: إمَّا المال، وإما الجاه، وإما الصُّوَر، وإما ما يَتَّخِذه إلهًا من دون الله كالشمس والقمر والكواكب والأوثان، وقبور الأنبياء والصالحين، أو مِن الملائكة والأنبياء الذين يتخذهم أربابًا، أو غير ذلك مما عُبِدَ من دون الله. وإذا كان عبدًا لغير الله يكون مشركًا، وكل مُستكبِرٍ فهو مُشرِكٌ؛ ولهذا كان فرعون من أعظم الخَلْق استكبارًا عن عبادة الله، وكان مشركًا، قال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاَ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} -يعني فرعون- إلى قوله: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر: 27- 35].



أهمية العبادة

تظهر أهمية العبادة وفضلها ومكانتها في أنها الغاية التي خلق الله لها الخلق . قال تعالى : " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون "[3] ، وبها أُرسل الرسل كما قال تعالى : " ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت "[4] ، وبتحقيقها يكمل المخلوق ، وهي الصفة التي وصف الله بها ملائكته وأنبيائه ونعت بها صفوة خلقه ، ووصف بها النبي صلى الله عليه وسلم في أكمل أحواله كحال الإسراء . قال تعالى : "سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير " [5] ، وجعل ذلك لازما له حتى الموت ، ولذلك فمن توهم أن المخلوق يخرج من العبودية بوجه من الوجوه فهو أضل الخلق وأجهلهم .

ولو نظرنا لوجدنا أن الدين كله داخل في العبادة كما دل على ذلك حديث جبريل الطويل ، وكذلك فالدين يتضمن الذل والخضوع إضافة إلى أن العبادة في أصل معناها : الذل ، وعبادة الله تشمل الذل والمحبة غايتهما ، فإن الذل بلا محبة أو المحبة بلا ذل لا تسمى عبادة .

والعبادة أمر اختُص الله به ، فلا يعبد غيره ، فإن جنس المحبة والطاعة الإرضاء والإيتاء لله ورسوله ، أما العبادة وما يناسبها فهي لله وحده .

وما دام أن الله سبحانه وتعالى خلق الثقلين لعبادته فهذا يدل على أن العبادة هي الأصل، وأن التّوحيد هو الأصل والأساس. ثم قال-جل وعلا-: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) } هذا فيه بيان أن الله- جل وعلا- ليس بحاجة إلى عبادتهم، وإنما هم المحتاجون إلى عبادة الله {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) } ، فالله خلق الثقلين لعبادته، ولكنه- جل وعلا- ليس محتاجاً إلى عبادتهم، إذاً من هو المحتاج إلى العبادة؟. هم العباد أنفسهم.

ولهذا قال: {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) } ، فالله لا تضره معصية العاصي، ولا تنفعه طاعة المطيع، وإنما الطاعة تنفع صاحبها، والمعصية تضر صاحبها، قال- تعالى-: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} وفي الحديث القدسي، أن الله سبحانه وتعالى يقول: "يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم وأنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً"، وفي ختام الحديث العظيم، قال: "يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفِّيكم إيّاها؛ فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلاَّ نفسه".

والله يقول: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) } لا ليتكثَر بهم من قِلّة، ولا ليتعزّز بهم من ذِلَّة سبحانه وتعالى، وإنما خلقهم لعبادته، ومصلحة العبادة راجعة إليهم هم.

فهذه الآية فيها بيان معنى (التّوحيد) وأنه: العبادة، وليس "التّوحيد" المطلوب معناه: الإقرار بالربوبية -كما يقول الضلال، وإنما معناه العبادة، أي إخلاص العبادة لله سبحانه وتعالى.



ورحى العبودية تدور على خمس عشرة قاعدة ، من كملها كمل مراتب العبودية .

وبيانها أن العبودية منقسمة على القلب ، واللسان ، والجوارح ، وعلى كل منها عبودية تخصه .

والأحكام التي للعبودية خمسة : واجب ، ومستحب ، وحرام ، ومكروه ، ومباح ، وهي لكل واحد من القلب ، واللسان ، والجوارح .

فواجب القلب منه متفق على وجوبه ، ومختلف فيه .

فالمتفق على وجوبه كالإخلاص ، والتوكل ، والمحبة ، والبر ، والإنابة ، والخوف ، والرجاء ، والتصديق الجازم ، والنية في العبادة ، وهذه قدر زائد على الإخلاص ، فإن الإخلاص هو إفراد المعبود عن غيره .

 ونية العبادة لها مرتبتان :
إحداهما : تمييز العبادة عن العادة .
والثانية : تمييز مراتب العبادات بعضها عن بعض .

والأقسام الثلاثة واجبة .

وكذلك الصدق ، والفرق بينه وبين الإخلاص أن للعبد مطلوبا وطلبا ، فالإخلاص توحيد مطلوبه ، والصدق توحيد طلبه .

فالإخلاص : أن لا يكون المطلوب منقسما ، والصدق : أن لا يكون الطلب منقسما ، فالصدق بذل الجهد ، والإخلاص إفراد المطلوب . 

واتفقت الأمة على وجوب هذه الأعمال على القلب من حيث الجملة .

وكذلك النصح في العبودية ، ومدار الدين عليه ، وهو بذل الجهد في إيقاع العبودية على الوجه المحبوب للرب المرضي له ، وأصل هذا واجب ، وكماله مرتبة المقربين .

وكذلك كل واحد من هذه الواجبات القلبية له طرفان ، واجب مستحق ، وهو مرتبة أصحاب اليمين ، وكمال مستحب ، وهو مرتبة المقربين .

وكذلك الصبر واجب باتفاق الأمة ، قال الإمام أحمد : ذكر الله الصبر في تسعين موضعا من القرآن ، أو بضعا وتسعين ، وله طرفان أيضا : واجب مستحق ، وكمال مستحب .

وأما المختلف فيه فكالرضا ، فإن في وجوبه قولين للفقهاء والصوفية ، والقولان لأصحاب أحمد ، فمن أوجبه قال : السخط حرام ، ولا خلاص عنه إلا بالرضا ، وما لا خلاص عن الحرام إلا به فهو واجب .
واحتجوا بأثر " من لم يصبر على بلائي ، ولم يرض بقضائي ، فليتخذ ربا سواي " .

 ومن قال : هو مستحب ، قال : لم يجئ الأمر به في القرآن ولا في السنة ، بخلاف الصبر ، فإن الله أمر به في مواضع كثيرة من كتابه ، وكذلك التوكل ، قال إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين وأمر بالإنابة ، فقال وأنيبوا إلى ربكم وأمر بالإخلاص كقوله وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين وكذلك الخوف كقوله فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين وقوله فلا تخشوهم واخشوني وقوله وإياي فارهبون وكذلك الصدق ، قال تعالى ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين وكذلك المحبة ، وهي أفرض الواجبات ، إذ هي قلب العبادة المأمور بها ، ومخها وروحها .

وأما الرضا فإنما جاء في القرآن مدح أهله ، والثناء عليهم ، لا الأمر به .

قالوا : وأما الأثر المذكور فإسرائيلي ، لا يحتج به .
قالوا : وفي الحديث المعروف عن النبي صلى الله عليه وسلم إن استطعت أن تعمل الرضا مع اليقين فافعل ، فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره النفس خيرا كثيرا وهو في بعض السنن .
قالوا : وأما قولكم " لا خلاص عن السخط إلا به " فليس بلازم ، فإن مراتب الناس في المقدور ثلاثة : الرضا ، وهو أعلاها ، والسخط ، وهو أسفلها ، والصبر عليه بدون الرضا به ، وهو أوسطها ، فالأولى للمقربين السابقين ، والثالثة للمقتصدين ، والثانية  للظالمين ، وكثير من الناس يصبر على المقدور فلا يسخط ، وهو غير راض به ، فالرضا أمر آخر .

وقد أشكل على بعض الناس اجتماع الرضا مع التألم ، وظن أنهما متباينان ، وليس كما ظنه ، فالمريض الشارب للدواء الكريه متألم به راض به ، والصائم في شهر رمضان في شدة الحر متألم بصومه راض به ، والبخيل متألم بإخراج زكاة ماله راض بها ، فالتألم كما لا ينافي الصبر لا ينافي الرضا به .

وهذا الخلاف بينهم إنما هو في الرضا بقضائه الكوني ، وأما الرضا به ربا وإلها ، والرضا بأمره الديني فمتفق على فرضيته ، بل لا يصير العبد مسلما إلا بهذا الرضا أن يرضى بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا .


فالإنسان إذاً خلق ليعبد الله، وهذه هي الغاية، وكثيراً ما تسأل إنساناً: ماذا تريد من الحياة؟ فيجيب إجابة عجيبة، ، فللأسف الشديد العقول رتبت على أن الحياة هي نهاية المطاف، وما فكر أن هناك بعد هذه الحياة حياة، فلابد أن تكون الإجابة حاضرة، أنك أولاً توقن بلقاء الله عز وجل، وأنك تعمل لعبادة الله، وتكون في طاعته وعبادته، وهذا الأمر في الحقيقة أهم من الطعام والشراب، وحاجة الإنسان إليه أهم من الطعام والشراب، كما خلق الله الإنسان لا يحيا إلا بالطعام والشراب، فلذلك جعل في نفسه حب الطعام والشراب يطلبه حتى قبل أن يدرك فائدته، يعني: الجائع يأكل قبل أن يفكر في الحكمة، وأن الأكل هو سبب غذائه، وقد دعاه إلى الأكل والشرب والتناكح والتناسل رغبة في الإنسان موجودة فيه من أجل أن لا يكون خائفاً على النوع البشري، لكن انظر أي شاب يريد أن يتزوج، هل يريد أن يتزوج لأنه قلق على البشرية أم يريد أن يتزوج من أجل أنه وجد في نفسه الرغبة؟ الرغبة هذه موجودة في الإنسان، أي رجل وامرأة يريد الجنس الآخر، وهي في الحقيقة موجودة بسبب حب النوع، وبعدما يتزوج يقول: أنا أريد ولداً يحمل اسمي من بعدي، وأريد أن يكون لي ذرية، ويكون عنده رغبة شديدة لذلك، ولو تأخر الحمل تراه يروح ويجيء ويدور حتى يتم الحمل، وكل هذه الأشياء موجودة لأن الإنسان محتاج لهذه الأمور ولا تتم حياته إلا بها، فقد جعل الله في قلبه وفي نفسه الحاجة إلى ذلك، وكذلك نقول: الوظيفة العظمى التي خلق الإنسان من أجلها ووظيفة عمره ليست جانباً في جوانب حياته، بل في كل لحظة من لحظات حياته، هي العبودية لله سبحانه وتعالى.




ومن شروط صحة العبادة الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاء به، وأصل الاتباع: قلبي، وكماله: باللسان والجوارح.

وكذلك عبادة الصبر والشكر والرضا، وعبادة التوكل على الله سبحانه وتعالى، والرغبة فيما عنده سبحانه وتعالى، وكذا عبادة الزهد في الدنيا، وتعظيم أمر الآخرة، وتعظيم الرب سبحانه وتعالى، وتعظيم أوامره، وتعظيم حرماته، والورع عن محارمه سبحانه وتعالى، وغير ذلك من عبادات القلب، وذكر الله أصله في القلب، ثم يعبر عنه باللسان.

والتوبة إلى الله عز وجل أصلها عقد العزم ألا يعود إلى الذنب مع ترك الإصرار والإقلاع عن الذنب، فهذه كلها من عبادات القلب المهمة العظيمة.

والمراقبة لله سبحانه وتعالى، أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، ومحاسبة النفس لله، والتفكر والاعتبار بآيات الله سبحانه وتعالى، وكل عبادة ذكرها الله عز وجل في كتابه، وذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في سنته من عبادات القلب فهي من أعمال القلوب. ومنها الاعتقاد واليقين وتصديق الله فيما ورد في كتابه، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وعبادة اللسان أعظمها: نطق الشهادتين، وبها يدخل الإنسان الإسلام، ومن عبادات اللسان ذكر الله وتلاوة القرآن وتلاوة الأذكار في الصباح والمساء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باللسان، والدعوة إلى الله عز وجل، وبر الوالدين بإحسان الكلام إليهما، وكف الأذى عنهما.

ومن عبادات القلب ترك العقائد الفاسدة، وترك إفساد القلوب بالحسد والحقد والكبر والعجب.

ومن عبادات اللسان أن تكف عن الغيبة، والنميمة والكذب، وسائر ما حرم الله عز وجل عليك، من الكلام الفاحش البذيء والمنكر، وتقول الحق، وتدعو إليه كذلك.

وأما عبادة الجوارح فتشمل الركوع، والسجود، والدعاء، والذبح، والنذر، والدعاء ضمن العبادات القلبية والقولية، وتشمل عبادة الجوارح السير إلى المساجد وإغاثة الملهوف، وجميع العبادات الظاهرة كالصيام والزكاة والحج والسفر في طلب العلم، والجهاد في سبيل الله، وتغيير المنكرات باليد بالضوابط الشرعية في ذلك، لمن قدر عليها، وبمراعاة المصالح والمفاسد.

ومن العبادات سائر ما يؤدى بالجوارح، كسماعك بأذنك كلام الله، وسماعك الموعظة، وسماعك درس العلم، وسماعك حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك نظرك بعينيك في آيات الله المقروءة في المصحف، والمرئية في الكون، والاعتبار بذلك، وأكل الطيبات؛ لكف نفسك عن الحرام، كذلك إتيان الزوجة بنية إعفاف نفسك وإعفافها، وأن تطلب ما أحل الله عز وجل لك، كل ذلك تثاب عليه.

وكذلك ما من نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعل في فيِّ امرأتك، هكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لـسعد بن أبي وقاص.


شارك الموضوع

مواضيع ذات صلة

التسميات