الضرورات الخمس



الضَّرُورِيَّاتِ الْخَمْسِ، وَهِيَ: الدِّينُ، وَالنَّفْسُ، وَالنَّسْلُ، وَالْمَالُ، وَالْعَقْلُ

قال الشاطبي مبينا هذه الضروريات ووجه الاستدلال عليها: فَقَدَ اتَّفَقَتِ الْأُمَّةُ ـ بَلْ سَائِرُ الْمِلَلِ ـ عَلَى أَنَّ الشَّرِيعَةَ وُضِعَتْ لِلْمُحَافَظَةِ عَلَى الضَّرُورِيَّاتِ الْخَمْسِ، وَهِيَ: الدِّينُ، وَالنَّفْسُ، وَالنَّسْلُ، وَالْمَالُ، وَالْعَقْلُ ـ وَعِلْمُهَا عِنْدَ الْأُمَّةِ كَالضَّرُورِيِّ، وَلَمْ يَثْبُتْ لَنَا ذَلِكَ بِدَلِيلٍ مُعَيَّنٍ، وَلَا شَهِدَ لَنَا أَصْلٌ مُعَيَّنٌ يَمْتَازُ بِرُجُوعِهَا إِلَيْهِ، بَلْ عُلمت مُلَاءَمَتُهَا لِلشَّرِيعَةِ بِمَجْمُوعِ أَدِلَّةٍ لَا تَنْحَصِرُ فِي بَابٍ وَاحِدٍ، وَلَوِ اسْتَنَدَتْ إِلَى شَيْءٍ مُعَيَّنٍ لَوَجَبَ عَادَةً تَعْيِينُهُ. انتهى.

وإنما يمثل لهذه الضروريات ورعاية الشرع لها بما شرعه الله تعالى من الأحكام، قال الشيخ الجديع: مثالُها في حفظِ الضَّروراتِ الخمسِ: الدِّينِ، والنَّفسِ، والمالِ، والعِرضِ، والعقلِ، أنْ شرعَ الجهَادَ وقتلَ المرتدِّ لحفظِ الدِّينِ، والقصاصَ لحفظِ النَّفسِ، وحدَّ السَّرقةِ لحفظِ المالِ، وحدَّ الزِّنا والقذْفِ لحفظِ العِرضِ، وحدَّ الشُّربِ لحفظِ العقلِ. انتهى.


وقد اعتنى الإسلام بحفظ الضروريات الخمس التي اتفقت الشرائع السماوية على حفظها، واعتبر التعدي عليها جناية وجريمة تستلزم عقاباً مناسباً، وبحفظ هذه الضروريات يسعد المجتمع، ويطمئن كل فرد فيه.
قال الشاطبي: "فقد اتفقت الأمة بل سائر الملل على أن الشريعة وضعت للمحافظة على الضروريات الخمس وهي: الدين والنفس والنسل والمال والعقل، وعلمها عند الأمة كالضروري، ولم يثبت لنا ذلك بدليل معين ولا شهد لنا أصل معين يمتاز برجوعها إليه، بل علمت ملاءمتها للشريعة بمجموع أدلة لا تنحصر في باب واحد

وإِذَا كَانَتِ القَوَانِينُ الوَضعِيَّةُ الأَرضِيَّةُ، تَهتَمُّ بِإِسعَادِ المَرءِ في دُنيَاهُ فَحَسبُ، وَقَد تَهتَمُّ بِهِ فَردًا عَلَى حِسَابِ الجَمَاعَةِ، وَقَد تَغمِطُهُ حَقَّهُ عَلَى حِسَابِ الآخَرِينَ، فَإِنَّ الشَّرَائِعَ السَّمَاوِيَّةَ المُنَزَّلَةَ مِن عِندِ رَبِّ العَالمِينَ، جَاءَت لإِسعَادِ الإِنسَانِ في الدَّارَينِ، وَقَصَدَت إِلى نَجَاتِهِ في دُنيَاهُ وَأُخرَاهُ، وَاهتَمَّت بِهِ فَردًا مِن ضِمنِ جَمَاعَةٍ، لَهُ عَلَيهَا حَقُوقٌ وَلَهَا عَلَيهِ حُقُوقٌ، وَمِن أَجلِ هَذَا فَقَد جَاءَ الإِسلامُ بِكُلِّيَّاتٍ خَمسٍ، أَوجَبَ حِفظَهَا وَحَمَى حِمَاهَا، وَحَدَّ الحُدُودَ وَشَرَعَ التَّعزِيرَاتِ لِلحَيلُولَةِ دُونَ النَّيلِ مِنهَا، إِنَّهَا الدِّينُ وَالنَّفسُ وَالمَالُ وَالعِرضُ وَالعَقلُ، فَالإِنسَانُ مَخلُوقٌ لِعِبَادَةِ رَبِّهِ وَخَالِقِهِ، وَهُوَ عَائِدٌ إِلى مَولاهُ فَمُحَاسِبُهُ، قَالَ - تَعَالى -: ﴿ وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعبُدُونِ ﴾ وَقَالَ - جَلَّ وَعَلا -: " ﴿ أَفَحَسِبتُم أَنَّمَا خَلَقنَاكُم عَبَثًا وَأَنَّكُم إِلَينَا لا تُرجَعُونَ. فَتَعَالى اللهُ المَلِكُ الحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ العَرشِ الكَرِيمِ. وَمَن يَدعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفلِحُ الكَافِرُونَ ﴾ وَقَالَ - سُبحَانَهُ -: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسلامُ ﴾ وَقَالَ - تَعَالى -: ﴿ وَمَن يَبتَغِ غَيرَ الإِسلامِ دِينًا فَلَن يُقبَلَ مِنهُ وَهُوَ في الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ ﴾ وَقَالَ - جَلَّ وَعَلا -: " ﴿ وَمَن يَرتَدِدْ مِنكُم عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَت أَعمَالُهُم في الدُّنيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصحَابُ النَّارِ هُم فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ وَقَالَ - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ -: " مَن بَدَّلَ دِينَهُ فَاقتُلُوهُ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَغَيرُهُ.




الأدلة على مراعاة الضروريات الخمس:


1- الدين : 
قَالَ - تَعَالى -: ﴿ وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعبُدُونِ ﴾ وَقَالَ - جَلَّ وَعَلا -: " ﴿ أَفَحَسِبتُم أَنَّمَا خَلَقنَاكُم عَبَثًا وَأَنَّكُم إِلَينَا لا تُرجَعُونَ. فَتَعَالى اللهُ المَلِكُ الحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ العَرشِ الكَرِيمِ. وَمَن يَدعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفلِحُ الكَافِرُونَ ﴾ وَقَالَ - سُبحَانَهُ -: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسلامُ ﴾ وَقَالَ - تَعَالى -: ﴿ وَمَن يَبتَغِ غَيرَ الإِسلامِ دِينًا فَلَن يُقبَلَ مِنهُ وَهُوَ في الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ ﴾ وَقَالَ - جَلَّ وَعَلا -: " ﴿ وَمَن يَرتَدِدْ مِنكُم عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَت أَعمَالُهُم في الدُّنيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصحَابُ النَّارِ هُم فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ وَقَالَ - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ -: " مَن بَدَّلَ دِينَهُ فَاقتُلُوهُ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَغَيرُهُ.
2-  النَّفسُ البَشَرِيَّةُ :
وهِيَ غَالِيَةٌ غَالِيَةٌ، وَالحِفَاظُ عَلَيهَا أَمَانَةٌ وَمَسؤُولِيَّةٌ، وَالاعتِدَاءُ عَلَيهَا وَإِزهَاقُهَا جَرِيمَةٌ وَأَيُّ جَرِيمَةٍ، وَأَعظَمُ النُّفُوسِ عِندَ اللهِ نَفسُ المُؤمِنِ، ثم كُلُّ نَفسٍ مُعَاهَدَةٍ، قَالَ - سُبحَانَهُ -: ﴿ وَمَن يَقتُلْ مُؤمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ﴾، وَقَالَ - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ -: " لا يَحِلُّ دَمُ امرِئٍ مُسلِمٍ يَشهَدُ أَنْ لا إلَهَ إلاَّ اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ إلاَّ بِإِحدَى ثَلاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّاني، وَالنَّفسُ بِالنَّفسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ المُفَارِقُ لِلجَمَاعَةِ " وَقَالَ - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ -: " كُلُّ ذَنبٍ عَسَى اللهُ أَن يَغفِرَهُ إِلاَّ الرَّجُلَ يَمُوتُ مُشرِكًا أَو يَقتُلُ مُؤمِنًا مُتَعَمِّدًا " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ. وَقَالَ - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ -: " مَن قَتَلَ مُؤمِنًا فَاغتَبَطَ بِقَتلِهِ، لم يَقبَلِ اللهُ مِنهُ صَرفًا وَلا عَدلاً " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ. وَقَالَ - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ -: " مَن قَتَلَ مُعَاهَدًا لم يَرَحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ. وقَالَ - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ -: " لا يَزَالُ المُؤمِنُ في فُسحَةٍ مِن دِينِهِ مَا لم يُصِبْ دَمًا حَرَامًا " رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَغَيرُهُ.
3- المَالُ:
وقَد كَفَلَ الإِسلامُ فِيهِ لِكُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، وَحَرَّمَ الاعتِدَاءَ عَلَيهِ وَأَخذَهُ بِغَيرِ حَقٍّ، وَشَرَعَ حَدَّ السَّرِقَةِ لِصِيَانَتِهِ، وقَالَ - سُبحَانَهُ -: ﴿ وَلا تَأكُلُوا أَموَالَكُم بَينَكُم بِالبَاطِلِ ﴾ وَقَالَ - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ -: " لا تَحَاسَدُوا، وَلا تَنَاجَشُوا، وَلا تَبَاغَضُوا، وَلا تَدَابَرُوا، وَلا يَبِعْ بَعضُكُم عَلَى بَيعِ بَعضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخوَانًا، المُسلِمُ أَخُو المُسلِمِ، لا يَظلِمُهُ، وَلا يَخذُلُهُ، وَلا يَحقِرُهُ، التَّقوَى هَاهُنَا - وَيُشِيرُ إِلى صَدرِهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ - بِحَسْبِ امرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَن يَحقِرَ أَخَاهُ المُسلِمَ، كُلُّ المُسلِمِ عَلَى المُسلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرضُهُ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ.
4- العِرضُ:
وقَد حَرِصَ الإِسلامُ عَلَى طَهَارَتِهِ وَنَقَائِهِ وَصَفَائِهِ، وَوَضَعَ سَيَاجَاتٍ لِحِمَايَتِهِ وَوِقَايَتِهِ وَصَيَانَتِهِ، فَحَرَّمَ النَّظَرَ إِلى العَورَاتِ وَتَتَبُّعَهَا، وَحَرَّمَ الزِّنَا وَمَقَتَهُ وَقَبَّحَهُ، وَجَعَلَ حَدَّ فَاعِلِهِ الجَلدَ أَوِ الرَّجمَ، وَغَلَّظَ في أَمرِ رَميِ المُحصَنَاتِ، وَعَدَّهُ مِنَ السَّبعِ المُوبِقَاتِ المُهلِكَاتِ، قَالَ سُبحَانَهُ -: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَرمُونَ المُحصَنَاتِ الغَافِلاتِ المُؤمِنَاتِ لُعِنُوا في الدُّنيَا وَالآخِرَةِ ﴾ وَقَالَ - سُبحَانَهُ -: ﴿ وَالَّذِينَ يَرمُونَ المُحصَنَاتِ ثم لم يَأتُوا بِأَربَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنهُم ثَمَانِينَ جَلدَةً وَلا تَقبَلُوا لهم شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ ﴾ وَقَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " يَا مَعشَرَ مَن قَد أَسلَمَ بِلِسَانِهِ وَلم يُفضِ الإِيمَانُ إِلى قَلبِهِ، لا تُؤذُوا المُسلِمِينَ وَلا تُعَيِّرُوهُم وَلا تَتَّبِعُوا عَورَاتِهِم، فَإِنَّهُ مَن تَتَبَّعَ عَورَةَ أَخِيهِ المُسلِمِ تَتَبَّعَ اللهُ عَورَتَهُ، وَمَن تَتَبَّعَ اللهُ عَورَتَهُ يَفضَحْهُ وَلَو في جَوفِ رَحلِهِ " رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَغَيرُهُ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ. وَقَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " اِجتَنِبُوا السَّبعَ المُوبِقَاتِ: الشِّركُ بِاللهِ، وَالسِّحرُ، وَقَتلُ النَّفسِ الَّتي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِّ، وَأَكلُ الرِّبَا، وَأَكلُ مَالِ اليَتِيمِ، وَالتَّولي يَومَ الزَّحفِ، وَقَذفُ المُحصَنَاتِ المُؤمِنَاتِ الغَافِلاتِ " مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
5- العُقُولُ:
وقَد كَرَّمَ اللهُ بها بَني الإِنسَانِ، وَجَعَلَهَا مَنَاطَ التَّكلِيفِ وَمُتَعَلَّقَهُ، وَلم يُكَلِّفْ بِعَمَلٍ وَلا أَوجَبَ حِسَابًا عَلَى مَن زَالَ عَقلُهُ بِغَيرِ فِعلٍ مِنهُ، غَيرَ أَنَّ غَلاءَ العَقلِ وَأَهمِيَّتَهُ، جَعَلَ الاعتِدَاءَ عَلَيهِ حَتى مِن صَاحِبِهِ أَمرًا مُحَرَّمًا، وَمِن أَجلِ هَذَا حُرِّمَتِ الخَمرُ وَوُصِفَت بِأَنَّهَا رِجسٌ مِن عَمَلِ الشَّيطَانِ وَأَنَّهَا أُمُّ الخَبَائِثِ، قَالَ - تَعَالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الخَمرُ وَالمَيسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزلامُ رِجسٌ مِن عَمَلِ الشَّيطَانِ فَاجتَنِبُوهُ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ. إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيطَانُ أَن يُوقِعَ بَينَكُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغضَاءَ في الخَمرِ وَالمَيسِرِ وَيَصُدَّكُم عَن ذِكرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَل أَنتُم مُنتَهُونَ ﴾، وَقَالَ - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ -: " الخَمرُ أُمُّ الفَوَاحِشِ وَأَكبَرُ الكَبَائِرِ " رَوَاهُ الطَّبرَانيُّ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ.


الترتيب بين الضرورات الخمس :
المشهور عند أهل الأصول أنها على الترتيب التالي :
الدين فالنفس فالعقل فالنسب ثم المال والعرض في رتبة متساويين 
قال في المراقي :
دينٌ ونفسٌ ثم عقلٌ نسبُ == مالٌ إلى ضرورةٍ تنتسبُ 
ورتبنْ ولْتَعطفنْ مساويا == عِرضا على المال تكن موافيا 
فحفظها حتمٌ على الإنسانِ == في كل شرعةٍ من الأديانِ
قال في شرحه نشر البنود :
يعني أن ما ذكر من الضروريات مرتب فكل واحد منها دون ما قبله في الرتبة فيقدم عليه عند التعارض إلا حفظ المال وحفظ العرض فإنهما في آخر رتبة ومعنى تكن موافيا تكن موافقا لأهل الأصول فحفظ العرض هو المقصود من ترتب الجلد على القذف وتسوية العرض والمال هو مذهب السبكي لكن الظاهر أن يفصل فيقال من فوائد حفظ الأعراض صيانة الأنساب عن تطرق الشك إليها بالقذف فيلحق بحفظ النسب فيكون بهذا الاعتبار أرفع من المال ..إلخ 
وقال عن صاحب الآيات البينات : واستشكل جعل حفظ المال من الضروري والبيع من الحاجي مع أن ضرورية المال إنما هي لتوقف البنية عليه حينئذ .
فأي فرق بين المال الذي في يده والمال الذي يريد تحصيله بالبيع ..إلخ 

مع هذا 
لم يتفق المتقدّمون على ترتيب واحد للضروريات وإن اتفق جلهم على حصرها في خمس مصالح الدّين والنفس والنسل والعقل والمال.

وكانت أقوالهم في ترتيبها كثيرة جدا فبعضهم قدّم الدّين على النفس وهم الأغلب وخالف آخرون فقدّموا النفس على الدّين وهكذا في كلّ المقاصد الضرورية خلاف كبير في ترتيبها عند المتقدّمين.

قال ابن أمير الحاج: (ويقدّم حفظ الدّين من الضروريات على ما عداه عند المعارضة لأنه المقصود الأعظم، قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ)(38) وغيره مقصود من أجله، ولأنّ ثمرته أكمل الثمرات وهي نيل السعادة الأبدية في جوار ربّ العالمين، ثمّ يقدّم حفظ النفس على حفظ النّسب والعقل والمال لتضمنه المصالح الدّينية لأنها إنما تحصل بالعبادات، وحصولها موقوف على بقاء النفس ثم يقدّم حفظ النّسب لأنّه لبقاء نفس الولد إذ بتحريم الزنا لا يحصل اختلاط النّسب فينسب إلى شخص واحد فيهتم بتربيته وحفظ نفسه، وإلا أهمل فتفوت نفسه لعدم قدرته على حفظها، ثم يقدّم حفظ العقل على حفظ المال لفوات النفس بفواته حتى إنّ الإنسان بفواته يلتحق بالحيوانات ويسقط عنه التكليف، ومن ثمَّ وجب بتفويته ما وجب بتفويت النفس وهي الدية الكاملة، ثمّ حفظ المال)(39).

وهو صحيح في الجملة، لكن في الواقع كثيرًا ما تتضارب المصالح في القضية الواحدة.
وسبب اختلافهم يعود إلى أهمية كلّ مقصد في حدّ ذاته من ناحية وأهميته بالمقارنة مع المقاصد الضرورية الأخرى.
فهل يقدّم الدّين على النفس أم تقدّم هي عليه، وهذا موضع له أهميته الكبرى حيث إنَّهُ ينظّم أهم عنصرين في الوجود.
كما اختلفوا في تقديم النسل والعقل أحدهما على الآخر.
واختلفوا في تقديم النسل والمال أحدهما على الآخر.
واختلفوا في تقديم المصالح الدنيوية على الأخروية.


والخلاصة 

إنّ السلم الترتيبي الذي اهتدى إليه الشاطبي وغيره من ترتيب الضروريات مع بعضها غالبا وترتيب الضروريات العامة قبل الخاصة والكليّة قبل الجزئية والقطعية قبل الظنية كلها ساهمت في تشكيل هرم البناء المقاصدي للأحكام الفقهية مما يساعد كثيرا الفقيه في بناء فتواه وتأصيلها.

والتر
تيب بين هذه الضروريات: فيه بحث طويل الذيل جدا، وللعلماء فيه تفاصيل يطول استقصاؤها، لكن الأكثر على أنه يقدم حفظ الدين على ما عداه، ولا شك في أن حفظ أصل الدين مقدم على ما عداه كما أطال الشاطبي في تقريره في الموافقات: ثم حفظ النفس ثم العرض ثم المال ثم العقل،

وهذا لا يطرد، بل ليس للترتيب بين هذه الضرورات قاعدة ثابتة، فإن درجات الضروري متفاوتة كما يعرف بالنظر في أحكام الإكراه، وقد بين الشيخ عبد الله بن يوسف الجديع هذا المعنى بيانا حسنا فقال ما عبارته: والضَّروراتُ الخمسُ متَفاوِتَةٌ فيما بينهَا في قوَّةِ الضَّرورَةِ، فحفظُ الدِّين يُسترخصُ لأجلِهِ النَّفسُ والمالُ، وحفظُ النَّفسِ مُقدَّمٌ على حفظِ المالِ، فإنَّها تُفتَدَى بالمالِ والمالُ يُمكنُ استِدراكُ ما يفوتُ منهُ بخلافِ النَّفسِ، وحفظُ العِرضِ بالعِفَّةِ من الزِّنا يُفتَدى بالمالِ، بلْ بالنَّفسِ، وحفظُ العقلِ يُغتفرُ فيهِ ما لا يُغْتفرُ في غيرِهِ من الضَّروريَّاتِ بالعُذرِ، ودرجاتُ ذلكَ مُتفاوتَةٌ باعتباراتٍ تُدركُ من أحكامِ الإكراهِ، وحالِ الضَّرورَةِ والتَّحقيقُ أنَّ ترتيبَ الضَّروريَّاتِ ليسَ لهُ قانونٌ واضحٌ يُعوَّلُ عليهِ، وهيَ كما أشرْتُ تتفاوتُ باعتبارَاتِ، فلذَا لا يندرجُ ترتيبُها ضمنَ أُصولِ المقاصِدِ، وإنَّما التَّرتيبُ صحيحٌ في ترتيبِ المصالحِ من حيث الجملة.



طرق المحافظة على الضروريات:
قال الشاطبي: "والحفظ لها يكون بأمرين:
أحدهما: ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب الوجود.
والثاني: ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب العدم.
فأصول العبادات راجعة إلى حفظ الدين من جانب الوجود كالإيمان والنطق بالشهادتين والصلاة والزكاة والصيام والحج وما أشبه ذلك، والعادات راجعة إلى حفظ النسل والمال من جانب الوجود، وإلى حفظ النفس والعقل أيضاً لكن بواسطة العادات.
والجنايات ويجمعها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ترجع إلى حفظ الجميع من جانب العدم".



شارك الموضوع

مواضيع ذات صلة

التسميات