هل تُنصر الأمة في عشرِ ذي الحجة ؟






لا يخفي علي أحد ما تمر به الأمة الإسلامية في هذه الأزمنة من ويلات وضعف وتفرق ونكبات وهموم وحسرات ومذلة وهوان .... فأمتنا الإسلامية اليوم تحيى في مرحلة حرجة من مراحل التاريخ، وتعيش في ذات الوقت واقعًا مريرًا، كما أنها تحيى حياة الذل والهوان والاستكانة، وترضخ لما يملي عليها من أعوان الكفر والإلحاد من كل أمة، ومن كل جنس ولون، ولا تزال أمتنا تأكل فتات الموائد العالمية، ولا زالت أيضًا هي القصعة المستباحة لكل الأمم من الشرق أو الغرب، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه في أحاديث كثيرة منها:
عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يوشك الأمم أن تداعى عليكم، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. فقال قائل: ومِن قلَّةٍ نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السَّيل، ولينزعنَّ الله مِن صدور عدوِّكم المهابة منكم، وليقذفنَّ الله في قلوبكم الوَهَن. فقال قائل: يا رسول الله، وما الوَهْن؟ قال: حبُّ الدُّنيا، وكراهية الموت)) رواه أبو داود 4297 ، وأحمد 278/5
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزَّرع، وتركتم الجهاد، سلَّط الله عليكم ذلًّا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)) رواه أبو داود 3462 ، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 3462

وإن من فضل الله تعالى على عباده أن جعل لهم مواسم للطاعات، يستكثرون فيها من العمل الصالح، ويتنافسون فيها فيما يقربهم إلى ربهم،وإن من توفيق الله تعالي لعباده المؤمنين لجوءهم إليه سبحانه في الملمات واستغلال الأوقات الفاضلة العظيمه بالتضرع له ، والانطراح علي بابه وطلب الحوائج واستنزال النصر والسكينه منه سبحانه وتعالي دون سواه ومن يكثر قرع الباب يوشك أن يفتح له ومن كتب الله له النصر فلن يهزم مهما بدا ضعيفا ﴿ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ ﴾ [آل عمران: 160]
وهذه حقائق مسلمة عند المؤمنين، لا يتطرق إليها الشك أبدا ولكنهم يغفلون.
والسعيد من اغتنم تلك المواسم، ولم يجعلها تمر عليه مروراً عابراً.
ومن هذه المواسم الفاضلة عشر ذي الحجة، وهي أيام شهد لها الرسول صلى الله عليه وسلم بأنها أفضل أيام الدنيا، وحث على العمل الصالح فيها؛ بل إن الله تعالى أقسم بها، وهذا وحده يكفيها شرقاً وفضلاً، إذ العظيم لا يقسم إلا بعظيم، وهذا يستدعي من العبد أن يجتهد فيها، ويكثر من الأعمال الصالحة، وأن يحسن استقبالها واغتنامها.
وما كان هذا إلا تيسيرًا على عباد الله، وتسهيلاً للطاعة، وتهيأةً للجوّ من أجل تنسّم عبيـر البركة والرحمة. لا سيما وأنّ النفس البشرية تحتاج من حين لأخر إلى من يذكّرها ويعينها على طاعة الله، وليس هناك أفضل من معين من حضور أيام الخير والبركة والفضل والكرم.





أولا: لماذا نهتمّ بالعشر الأُول من ذي الحِجّة؟

لقـد خصَّ الله سبحانه وتعالى بعض الأمكنة والأزمنة بفضائل ومزايا، حيث ضاعف فيها الأجر والثواب، ومن هذه الأزمنة التي خصَّها الله بفضائل العشر الأول من ذي الحجة، فقد جعل الشرع الأعمال الصالحة فيها أفضل من الجهاد في سبيل الله، فعلى العبد أن يكثر فيها من الأعمـال الصّالحة، كالصّلاة والزّكاة والصوم والصدقة وغيرها؛ حتى ينال الأجر الكبير، والجزاء الوفير من الله العلي الكبير.
وقد حفل الشرع الحنيف ببيان فضائلِ هذه الأيام العشر تنبيهاً للمؤمنين على ارتياد آفاق الطاعات والعمل الصالح فيها ، ولذا فرض علينا أن نهتمّ بها ومن أسباب الاهتمام بها ما يأتي:

أولاً: لأنّ الله شرّفها وكرّمها، فأقسم بها وإذا أقسم الله بشيء دل هذا على عظم مكانته وفضله، إذ العظيم لا يقسم إلا بالعظيم، قال تعالى  ﴿ وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ ﴾[الفجر: 1، 2]. والليالي العشر هي عشر ذي الحجة، وهذا ما عليه جمهور المفسرين والخلف، وقال ابن كثير في تفسيره: وهو الصحيح.
فقد جمع الله تعالى خير الأوقات مع بعضها وجاء القَسَمُ بين جملةٍ وتفصيلٍ حيث أضاء فلق الصبح الأول للأيام العشر تفصيلاً، بينما امتزج ضياؤه بهذه الأيام جملةً ليزيدَ النور الأسنى بالخير والمثوبة والبركة، ذكر القرطبيُّ في الجامع: [ قال الضحاك: فجر ذي الحجة، لأن اللّه تعالى قرن الأيام به فقال: "وَلَيَالٍ عَشْر"  أي: ليالٍ عشرٍ من ذي الحجة، وقال مسروق: هي العشر التي ذكرها اللّه في قصة موسى عليه السلام: ﴿ وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ ﴾ [الأعراف: 142]، وهي أفضل أيام السنة، وهي ليالٍ عشر لأن ليلة يوم النّحر داخلةٌ فيها ] ( الإمام القرطبي / الجامع لأحكام القرآن ص39 ج8 بتحقيق هشام سمير البخاري - دار عالم الكتب - الرياض  2003م بتصرفٍ يسيرٍ)، وعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " العَشرُ عَشرُ الأَضحَى والوِترُ يومُ عرفةَ والشَّفعُ يومُ النَّحرِ ". ابن رجب في لطائف المعارف 470 وقال: إسناده حسن.

ثانيًا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد لها بأنها أفضل أيام الدنيا: فعن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فضل أيام الدنيا أيام العشر - يعني عشر ذي الحجة - قيل: ولا مثلهن في سبيل الله؟ قال: ولا مثلهن في سبيل الله إلا رجل عفر وجهه بالتراب) [رواه البزار وابن حبان وصححه الألباني].
قال سهيل بن صالح: اختار الله الزمان، وأحبُّ الزمان إلى الله الأشهرُ الحرم، وأحبُّ الأشهر الحرم إلى الله ذو الحجة، وأحبُّ ذي الحجة إلى الله العشر الأول ] الإمام ابن رجب / لطائف المعارف 358 ط1 2005 م بتحقيق عبد الله بن عامر / دار الحديث / القاهرة.

ثالثًا: لأنّه اجتمع فيها أمهات العبادات والفضائل. (من صلاة وصيام وزكاة وحجّ.....). قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في الفتح: (والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيره).

رابعًا: لأنّها أقرب فرصة للعبد في القرْب من الله تعالى، وذكره واللجوء إليه، قال تعالى: ﴿ وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ ﴾ [البقرة: 203]، وقال أيضًا: ﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ﴾ [الحج: 27، 28] وجمهور العلماء على أن الأيام المعلومات هي عشر ذي الحجة، منهم ابن عمر وابن عباس.

خامسًا: لأنها آخر موسم من مواسم العام الهجري وأيضاً أنها خاتمة أشهرِ الحج المعروفة بدايةً من شوال إلى يوم النحر قال الله تعالى: ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ﴾ [البقرة الآية: 197]، فعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: " أشْهُر الحجّ: شوالُ، وذو القعدةِ، وعشرٌ من ذي الحجةِ " (النووي في المجموع 7/ 146 بسندٍ صحيحٍ عن نافعٍ مولى ابن عمر). (فبماذا ستختم عامَك في هذه الأيام). وقد اجتمع لهذه الأيام شرف الزمان والمكان معًا، وشرف الطاعة المالية والبدنية والروحية معًا.

سادسًا:  أن فيها يوم عرفات، ذلك اليوم المشهود بالخيرات العظام والآلاء الجسام، قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: " اليومُ الموعودُ يومُ القيامةِ، واليومُ المشهودُ يومُ عرفةَ، والشاهدُ يومُ الجُمُعةِ، وما طَلَعَتِ الشمسُ ولا غَرَبَتْ، على يومٍ أفضلَ منه، فيه ساعةٌ لا يوافقُها عبدٌ مسلمٌ يَدْعُو اللهَ بخيرٍ إلا استجاب اللهُ له، ولا يستعيذُ من شرٍّ إلا أعاذه اللهُ منه " (الألباني في صحيح الجامع 8201 وقال: حديثٌ صحيحٌ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه)، ومن فضل يوم عرفة أن الله تعالى يغفر فيه للعباد ما بين العامين، قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: " من حفِظ لسانَه وسمعَه وبصرَه يومَ عرفةَ غُفر له من عرفةَ إلى عرفةَ " (المنذري في الترغيب والترهيب 2/ 195 وقال: إسناده صحيحٌ أو حسنٌ أو ما يقاربهما عن الفضل بن عباس رضي الله تعالى عنهما). ، وهو يساوي في النقاء والطهارة عامين كامِلين كما ثبت في الحديث. «صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ».
ولو لم يكن في عشر ذي الحجة إلا يوم عرفة لكفاها ذلك فضلاً

سابعًا: لأنها أيام أكمل الله فيها الدين وأتمّ فيها النعمة على عباده، قال الله تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3]. وقد نزلت في يوم عرفة في حجة الوداع من العام العاشر الهجري.

ثامنًا:  أنها من جملة الأربعين التي واعدها الله عز وجل لموسى عليه السلام، قال الله تعالى: ﴿ وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ﴾ [الأعراف: 142]، حيث تجلى ربنا الرحمنُ على الجبل وكلَّمَ الله فيه موسى عليه السلام تكليماً، فعنِ ابنِ عباسٍ رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: ﴿ وَوَاعَدْنَا مُوسَى... ﴾ الآية قال: ذو القَعدةِ وعشرٌ من ذي الحَجَّةِ. (الشوكاني في فتح القدير 2 / 340).
فحريّ بنا أن نستفيد ونغتنم هذه الأيام الصالحة، وأن نتبع هدي النبي صلى الله عليه وسلّم فيها.

تاسعا: ومن بركاتها أن فيها يوم التروية وهو يوم الثامن من ذي الحجة [ وسمي بذلك لأنهم كانوا يتروون من الماء فيه يعدونه ليوم عرفة، وقيل: سمي بذلك لأن إبراهيم عليه السلام رأى ليلتئذٍ في المنام ذبح ابنه فأصبح يروي في نفسه أهو حلم أم من الله تعالى فسمي يوم التروية فلما كانت ليلة عرفة رأى ذلك أيضاً فعرف أنه من الله فسمي يوم عرفة ] (الإمام ابن قدامة / المغني والشرح الكبير ص49: 50 ج4 - دار الغد العربي - القاهرة).

فضلُ العملِ الصَّالِحِ في عشْرِ ذِي الحِجَّةِ

وقد حث النبي الكريم صلى الله عليه وسلم على العمل الصالح في عشر ذي الحجة، فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما من عملٍ أزكى عند اللهِ ولا أعظمَ أجرًا من خيرٍ يعملُه في عَشرِ الأَضحى. قيل: ولا الجهادُ في سبيلِ اللهِ؟ قال: ولا الجهادُ في سبيلِ اللهِ، إلا رجلٌ خرج بنفسِه وماله فلم يرجِعْ من ذلك بشيءٍ. قال: فكان سعيدُ بنُ جُبَيرٍ إذا دخل أيامُ العشرِ اجتهد اجتهادًا شديدًا، حتى ما يكادُ يقدرُ عليه " (الألباني في صحيح الترغيب 1148 وقال: إسناده حسن).
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فذكرت له الأعمال فقال: ما من أيام العمل فيهن أفضل من هذه العشر؛ قالوا: يا رسول الله، الجهاد في سبيل الله؟ فأكبره. فقال: ولا الجهاد إلا أن يخرج رجل بنفسه وماله في سبيل الله، ثم تكون مهجة نفسه فيه) [رواه أحمد وحسن إسناده الألباني].

فدل هذان الحديثان وغيرهما على أن كل عمل صالح يقع في أيام عشر ذي الحجة أحب إلى الله تعالى من نفسه إذا وقع في غيرها، وإذا كان العمل فيهن أحب إلى الله فهو أفضل عنده. ودل الحديثان أيضاً على أن العامل في هذه العشر أفضل من المجاهد في سبيل الله الذي رجع بنفسه وماله، وأن الأعمال الصالحة في عشر ذي الحجة تضاعف من غير استثناء شيء منها.
فالعمل الصالح هذه الأيام العشر أزكى عند الله تعالى وأجزل ثواباً ولا يضارعه أجرٌ في أيام أخرى، وله صورٌ كثيرةٌ يجمعها ما أقرت به الشريعة الغراء وكان نافعاً للنفس والغير، وهناك أعمالٌ يتميز بها أهل المشعر الحرام وأعمالٌ صالحةٌ لبقية الناس القاطنين في أوطانهم.






 يتبع الجزء الثاني

شارك الموضوع

مواضيع ذات صلة

التسميات