الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر


المعروف في اللغة: ضد المنكر، والعرف ضد النكر، والعارِفُ والعَروفُ الصبور، ويطلق المعروف على الوجه لأن الإنسان يعرف به، كما يطلق على الجود وقيل: هو اسم ما تبذله وتسديه.

المعروف في الاصطلاح: اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله، والتقرب إليه، والإحسان إلى الناس، وكل ما ندب إليه الشرع ونهى عنه من المحسنات والمقبحات.

وقيل: هو كل ما يحسن في الشرع.

وقيل: هو كل ما عرف في الشرع من خير وطاعة مندوباً كان أو واجباً، وسمي معروفاً لأن العقول السليمة تعرفه[.

المنكر في اللغة: هو واحد المَناَكِر، وهو النكر، قال تعالى ﴿ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرً ﴾ [الكهف: 74]، والنَكِير والإنْكارُ: تغيير المنكر، والإنكارُ: الجحود، والتناكرُ: التجاهل.

المنكر في الاصطلاح: كل ما قبحه الشرع وحرمه وكرهه.

وقيل: ما عرف قبحه شرعاً وعقلاً.

وقيل: كل قول وفعل وقصد قبحه الشارع ونهى عنه.

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من شعائر الدين العظيمة، وأعماله الظاهرة التي امتاز بها عن سائر الأديان، وله ضوابطه وشرائطه التي لابد من تحققها عند القيام بالأمر والنهي، كما أن المنكرات تختلف فمنها: الكفر البواح، ومنها: الظلم، والفسق، وكبائر الذنوب... إلخ.

وقد وصف الله سبحانه المؤمنين بأنهم: يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكروقدمه الله عزّ وجلّ في سورة التوبة على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، فقال: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة:71].

كما أمر الله تعالى المؤمنين بقوله: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران:104].

قال الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية: يقول تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

قال الضحاك: هم خاصة الصحابة، وخاصة الرواة يعني: المجاهدين والعلماء... والمقصود من هذه الآية أن تكون فرقة من هذه الأمة متصدية لهذا الشأن، وإن كان ذلك واجباً على كل فرد من الأمة بحسبه، كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" وفي رواية: "وليس وراء ذلك من الأيمان حبة خردل".

وهو من أهم المهمات وأفضل القربات التناصح والتوجيه إلى الخير والتواصي بالحق والصبر عليه، والتحذير مما يخالفه ويغضب الله عزّ وجلّ ويباعد من رحمته.

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر منزلته عظيمة، وقد عده العلماء الركن السادس من أركان الإسلام، وقدمه الله عزّ وجلّ على الإيمان كما في قوله تعالى: { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله } .

وفي تحقيقه مصلحة الأمة ونجاتها، وفي إهماله الخطر العظيم والفساد الكبير، واختفاء الفضائل، وطهور الرذائل، وقد أوضح الله جل وعلا في كتابه العظيم منزلته في الإسلام، وبين سبحانه أن منزلته عظيمة، حتى إنه سبحانه في بعض الآيات قدمه على الإيمان، الذي هو أصل الدين وأساس الإسلام

والامر بالمعروف والنهي عن المنكر من صفات الامة الاسلامية ومن اسباب رقيها، وبلوغها درجة "خير امة اخرجت للناس". كما انهما كانا من صفات الصالحين من اهل الكتاب.

ومن هذه الامة طائفة فرض عليهم واجب الامر والنهي أشد من غيرهم؛ كالفقهاء والربانيين والمجاهدين والقوامين لله الذين اشترى الله منهم انفسهم واموالهـم، وبالذات الذين مكنهم الله في الارض.

والامر والنهي دليل ولاية الله سبحانه التي جعلها بين المؤمنين، ووسيلة رحمته. فمن حق المؤمن على أخيه ان يأمره بالمعروف وان ينهاه عن المنكر، ومن واجب المؤمن ان يستجيب لاخيه اذا امره ونهاه.

والامر والنهي من عزم الامور، كما اقامة الصلاة والصبر على البلاء، وعلينا ان نعقد العزم عليهما ونتوكل على الله فيهما، فلا نسمح للوهن ان يتخذ الى قلوبنا سبيلا، ولا الحزن والتردد.

والظاهر من الامر والنهي التعبير عنهما بالقول؛ لساناً او قلماً، او بتغيير الملامح، او بفعل يظهر الامر والنهي كالاشارة باليد، او ترك مجالسة فاعل المنكر وما اشبه.

وقال بعض الفقهاء: ان المراد من الامر حمل الآخر على فعل، والمراد من النهي ردعه عنه. وهكذا ينتظم في اطار الامر بالمعروف اقامة المشاريع الخيرية، وفي اطار النهي عن المنكر هدم بنى الفسق، وما ذكره هذا الفقيه هو الاحوط، ولكن الاقوى ان الامر والنهي يقتصران على ما سبق من اظهار الرغبة الشديدة في الفعل والترك بالامر والنهي قولا او ما يشبه القول.

ولا شك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفاية، ويتعين في بعض الأحوال بحسب القدرة، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية، ومما قاله في ذلك: وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يجب على كل أحد بعينه، بل هو على الكفاية، كما دل عليه القرآن، ولما كان الجهاد من تمام ذلك كان الجهاد أيضاً كذلك، فإذا لم يقم به من يقوم بواجبه أثم كل قادر بحسب قدرته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه" مجموع الفتاوى (28/126).

وبعد هذه المقدمة نقول: لا يجوز للعالم أن يدافع عن أحد، حاكم بلده ولا غيره إن كان على الباطل، بل الواجب عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبيان الحق حسب الاستطاعة، فينكر بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، كما في الحديث المتقدم.

وإذا سكت العالم على الأمور المنكرة التي لا يسع السكوت عنها، ولم ينكرها ينظر في السبب الذي حمله على السكوت، هل هو الخوف على نفسه من أذى يلحقه لا يحتمله من قتل أو تعذيب؟ أم الخوف على رزقه؟ أم الخوف على انقطاع الأعطيات التي يحصل عليها من الحاكم؟ أم هو الاستسلام للأمر الواقع واليأس من عدم التغيير؟ أو الرغبة في موافقة السلطان وعدم مخالفته؟ أو غير ذلك؟

ولا يخفى أن كل صورة من هذه الصور لها حكمها المستقل، ولا يعذر في هذه الصور إلا من يخاف على نفسه القتل، أو الأذى غير المحتمل، فيجوز له السكوت، واتباع الرخصة مع الإنكار التام بالقلب، وإن أخذ نفسه بالعزيمة فحسن، لقوله صلى الله عليه وسلم: "سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله" رواه الحاكم وصححه.

وتعقبه الذهبي بأن حميد الصفار لا يدري من هو، لكن حسنه الألباني في صحيح الجامع، والسلسلة الصحيحة.



وقد اختلف العلماء في هذا الوجوب هل هو عيني أو كفائي، ومن ذلك على سبيل المثال ما يلي:-

أولاً القائلون أنه فرض عين:-

قال الزجاج: معنى (ولتكن منكم أمة ) ولتكونوا كلكم أمة تدعون إلى الخير، وتأمرون بالمعروف، ولكن (من) تدخل هنا لتحض المخاطبين من سائر الأجناس، وهي مؤكدة أن الأمر للمخاطبين.

قال البغوي: كونوا أمة، (من) صلة ليست للتبعيض كقوله تعالى: ﴿ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ ﴾ [الحج: 30][17] لم يرد اجتناب بعض الأوثان، بل أراد فاجتنبوا الأوثان.


ومن الأقوال التي تفيد أن الأمر بالمعروف واجباً كفائياً، ما يلي:-

قال القرطبي: و(من) في قوله (منكم) للتبعيض، ومعناه أن الآمرين يجب أن يكونوا علماء، وليس كل الناس علماء، وقيل لبيان الجنس، والمعنى لتكونوا كلكم كذلك. قلت: القول الأول أصح، فإنه يدل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض على الكفاية.

قال أبو بكر بن العربي: في هذه الآية وفي التي بعدها وهي قوله: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾ [آل عمران: 110] دليل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية.

قال أبو بكر بن الجصاص: ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ ﴾ [آل عمران: 104] الآية قد حوت هذه الآية معنيين: أحدهما وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والآخر أنه فرض على الكفاية ليس على كل أحد في نفسه.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية:... والله تعالى أخبر بأنه (أي الأمة) تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فقد أوجب ذلك على الكفاية منها.

والقول بأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب كفائي هو الراجح -والله أعلم- وهو الذي ذهب إليه كثير من أهل العلم خلاف من ذكر.

كما أن بعض العلماء ذهب إلى أنه قد ينتقل إلى فرض عيني، كما قال النووي: ((ثم إنه قد يتعين كما إذا كان في موضع لا يعلم به إلا هو، أو لا يتمكن من إزالته إلا هو، كمن يرى زوجته أو أولاده أو غلامه على منكر، أو تقصير في المعروف)).



من فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما يلي:

أولاً: أنه من مهام وأعمال الرسل عليهم السلام، قال تعالى: { ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت }

ثانياً: أنه من صفات المؤمنين كما قال تعالى: { التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين }
على عكس أهل الشر والفساد { المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون } .

ثالثاً: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خصال الصالحين، قال تعالى: { ليسوا سواءً من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون . يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويُسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين } .

رابعاً: من خيرية هذه الأمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: { كُنتم خير أمة أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتُؤمنون بالله } .

خامساً: التمكين في الأرض، قال تعالى: { الذين إن مّكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وءاتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبةُ الأمور } .

سادساً: أنه من أسباب النصر، قال تعالى: { ولينصُرَنَّ الله من ينصره إن الله لقويٌ عزيز . الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وءاتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبةُ الأمور } .

سابعاً: عظم فضل القيام به كما قال تعالى: { لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً } . وقوله صلى الله عليه وسلم: « من دعا إلى هدى كان له مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً » [رواه مسلم].

ثامناً: أنه من أسباب تكفير الذنوب كما قال صلى الله عليه وسلم: « فتنة الرجل في أهله وماله ونفسه وولده وجاره، يكفّرها الصيام والصلاة والصدقة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر » [رواه أحمد].

تاسعاً: في القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حفظ للضرورات الخمس في الدين والنفس والعقل والنسل والمال. وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الفضائل غير ما ذكرنا.


فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من المهمات العظيمة كما سبق، وفي حديث ابن مسعود عند أحمد وأبي داود والترمذي يقول عليه الصلاة والسلام: ((لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم وآكلوهم وشاربوهم فلما رأى الله ذلك منهم ضرب قلوب بعضهم ببعض ثم لعنهم على لسان أنبيائهم داود وعيسى بن مريم ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ))[20]، وفي لفظ آخر: ((إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أن الرجل كان يلقى الرجل فيقول يا هذا اتق الله ودع ما تفعل من المعاصي ثم يلقاه في الغد فلا يمنعه ما رآه منه أن يكون أكيله وشريبه وقعيده فلما رأى الله ذلك منهم ضرب قلوب بعضهم على بعض ثم لعنهم)) فعلينا أن نحذر من أن يصيبنا ما أصاب أولئك، وقد جاء في بعض الأحاديث أن إهمال هذا الواجب وعدم العناية به - أعني واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - من أسباب رد الدعاء وعدم النصر كما تقدم.

ولا شك أن هذه مصيبة عظيمة، من عقوبات ترك هذا الواجب أن يخذل المسلمون وأن يتفرقوا وأن يسلط عليهم أعداؤهم، وأن لا يستجاب دعاؤهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وقد يكون هذا الواجب فرض عين على بعض الناس، إذا رأى المنكر، وليس عنده من يزيله غيره، فإنه يجب عليه أن يزيله مع القدرة، لما سبق من قوله صلى الله عليه وسلم: ((من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)) خرجه مسلم في الصحيح.



خطوات الإنكار والأمر:

أولاً: التعريف، فإن الجاهل يقوم على الشيء لا يظنه منكراً، فيجب إيضاحه له، ويؤمر بالمعروف ويبين له عظم أجره وجزيل ثواب من قام به، ويكون ذلك بحسن أدب ولين ورفق.

ثانياً: الوعظ؛ وذلك بالتخويف من عذاب الله عزّ وجلّ وعقابه وذكر آثار الذنوب والمعاصي، ويكون ذلك بشفقة ورحمة له.

ثالثاً: الرفع إلى أهل الحسبة إذا ظهر عناده وإصراره.

رابعاً: التكرار وعدم اليأس فإن الأنبياء والمرسلين أمروا بالمعروف وأعظمه التوحيد، وحذروا من المنكر وأعظمه الشرك، سنوات طويلة دون كلل أو ملل.

خامساً: إهداء الكتاب والشريط النافع.

سادساً: لمن كان له ولاية كزوجة وأبناء، فله الهجر والزجر والضرب.

سابعاً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يستوجب من الشخص الرفق والحلم، وسعة الصدر والصبر، وعدم الانتصار للنفس، ورحمة الناس، والإشفاق عليهم، وكل ذلك مدعاة إلى الحرص وبذل النفس.




التحذير من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

علمنا مما سبق ما يترتب على القيام بالأنمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الخير العظيم، كما علمنا وجوب الأمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمن ترك هذا العمل فقد ترك واجباً مهماً من واجبات الدين، وعرض نفسه للعذاب الأليم، والخطر العظيم، ومن ذلك على سبيل المثال:-

1- استحقاق اللعنة:

وردت اللعنة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على آثام عظيمة (نعوذ بالله من كل سوء)، ومما وردت عليه اللعنة في كتاب الله سبحانه وتعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما ذكر الله سبحانه عن الذين كفروا من بني إسرائيل حين قال ﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [المائدة: 78، 79] وفي سنن أبي داود عن عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((... كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدي الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا ولتقصرنه على الحق قصرا)) وزاد في آخره من وجه آخر ((أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعنكم كما لعنهم)).

2- ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب لعدم استجابة الدعاء:

كم يحتاج الإنسان في أيامه، بل في دقائقه ولحظاته، إلى اللجوء إلى ربه سبحانه وتعالى ودعائه بحاجاته، والله سبحانه وتعالى قريب من عباده كما في قوله سبحانه ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186]. ولكن الدعاء ربما تعوقه عوائق وترده عوارض، ومن العوائق التي تحول دون الاستجابة: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما في سنن ابن ماجة من حديث عائشة قالت (رضي الله عنها) سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا فلا يستجاب لكم)).
وفي مسند الإمام أحمد عن عائشة (رضي الله عنها) قالت: ((دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرفت في وجهه أن قد حفزه شيء، فتوضأ ثم خرج، فلم يكلم أحداً، فدنوت من الحجرات، فسمعته يقول: يا أيها الناس إن الله عز وجل يقول مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر من قبل أن تدعوني فلا أجيبكم وتسألوني فلا أعطيكم وتستنصروني فلا أنصركم)).

يقول محمد قطب: (( وإنه لحق ترجف له النفس فرقاً، ويقشعر الوجدان رعباً، وماذا يبقى للناس إذن؟ ماذا يبقى لهم إذا أوصدت من دونهم رحمة الله؟ ولمن يلجؤون في هذا الكون العريض، وقد أوصد الباب الأكبر الذي توصد بعده جميع الأبواب...ويبقى الإنسان في العراء الشامل الذي لا يستره شيء، ولا يحميه شيء، من لفحة الهاجرة وقسوة الزمهرير؟ ألا إنه لَلهول البشع الذي يتحامى الخيال ذاته أو يتخيله...؛ لأنه أفضع من أن يطيقه الخيال، السبب الذي يصله بربه قد انقطع، فراح يهوي إلى حيث لا يعلم أحد، ولا يلاحقه خيال.. تتمزق أوصاله.. يتناثر في كل اتجاه.. وكل جزء من نفسه يذوق من الآلام ما لا يطيق ﴿ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ﴾ [الحج: 31]. ذلك هو المخلوق الذي يدعو الله فلا يجيبه، ويسأله فلا يعطيه، ويستنصره فلا ينصره. فهل كتب الله ذلك الهول البشع على عباده المسلمين الذين يدعونه ويسألونه ويستنصرونه ؟ نعم... حين يكفون عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. ولو بأضعف الإيمان )).

3- تعريض النفس والغير للعقوبة:

إن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب في التعرض لعقاب الله سبحانه وتعالى، وهذا العقاب ربما كان عاماً، كما في حديث أبي بكر الصديق (رضي الله عنه): ((يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ﴾ [المائدة: 105] إلى آخر الآية، وإنكم تضعونها على غير موضعها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيروه أوشك الله أن يعمهم بعقابه)).
وقال ابن العربي: ((وهذا الفقه عظيم، وهو أن الذنوب منها ما يعجل الله عقوبته، ومنا ما يمهل بها إلى الآخرة، والسكوت على المنكر تتعجل عقوبته في الدنيا بنقص الأموال والأنفس والثمرات وركوب الذل والظلمة للخلق )).
وقال بلال بن سعد: ((إن المعصية إذا خفيت لم تضر إلا أهلها، وإذا أعلنت ولم تغير ضرت العامة )).
وقال عمر بن عبدالعزيز (رحمه الله): ((كان يقال: إن الله تعالى لا يعذب العامة بذنب الخاصة، ولكن إذا عمل المنكر جهاراً استحقوا كلهم العقوبة)).

ولاشك أن الإنسان المؤمن يحرص أشد الحرص على اجتناب ما يسبب له عقاب الله سبحانه وتعالى، ومن عرض نفسه للعقاب فقد عرض نفسه لخطر عظيم في الدنيا والآخرة، ومن تساهل في عقاب الله سبحانه وتعالى فإنما ذلك من جهله بالله الذي وصف عقابه بقوله ﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [فصلت: 43]. وقوله ﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الأنفال: 25]. وقد وصف الله سبحانه وتعالى عقابه بالشدة في ثلاثة عشر موضعاً من القرآن الكريم.

4- إِلف المسلم للمنكرات:

إن حدوث منكر في مجتمع من المجتمعات يكون في باديء الأمر مستقبحاً من الجميع، لأنهم لم يألفوه ولم يعتادوه، فضلاً عن كونه أمراً مخالفاً للشرع ومنهياً عنه، ولكن إذا فشا هذا المنكر في المجتمع، ألفه الكبير، وشب عليه الصغير، حتى يرى هذا الأمر عملاً معتاداً وليس منكراً من المنكرات، والواقع يشهد بذلك، في مجتمعنا وفي غيره من المجتمعات، وخذا على سبيل المثال كيف هي نظرة الناس لشارب الدخان اليوم، مقارنة لها في سابق الزمان.
ثم تأمل أيضاً في موقف الناس من تبرج النساء، كان في بداية الأمر يستنكر من المرأة أن يظهر منها طرف يدها أو قدمها، ثم استفحل الأمر بعد ذلك وأظهرت اليدين والقدمين، ثم أظهرت الوجه، ثم أظهرت الساقين والذراعين، ثم النحر والشعر، بل أكثر من ذلك، وأصبح هذا الوضع للمرأة في بعض بلاد الإسلام أمراً مألوفاً لكثرته وانتشاره، من قلة إنكاره، فإننا لله وإنا إليه راجعون.
يقول ابن النحاس قد تقوم كثرة رؤية المنكرات مقام ارتكابها في سلب القلب نور التمييز والإنكار، لأن المنكرات إذا كثر على القلب ورودها، وتكرر على العين شهودها ذهبت عظمتها من القلوب شيئاً فشيئاً، إلى أن يراها الإنسان فلا يخطر بباله أنها منكرات، ولا يميز بفكره أنها معاصي، لما أحدث تكرارها من تأليف القلب لها.
ولقد حكى أبو طالب المكي عن بعضهم أنه مر يوماً في السوق، فرأى بدعة فبال الدم من شدة إنكاره لها بقلبه، وتغير مزاجه لرؤيتها. فلما كان في اليوم الثاني مر فرآها فبال دماً صافياً. فلما كان في اليوم الثالث مر فرآها فبال بوله المعتاد. لأن حدة الإنكار التي أثرت في البدن ذلك الأثر ذهبت، فعاد المزاج إلى حاله الأولى، وصارت البدعة كأنها مألوفة عنده ومعروفة، وهذا أمر لا يمكن جحوده، والله أعلم.
إذا علم هذا، فلا بد أن نعلم أن سبب تفشي منكر من المنكرات في أي مجتمع من المجتمعات إنما هو بسبب عدم إنكاره، أو التقصير في إنكاره.

5- ترك تغيير المنكر نقص في الإيمان:

من تكاسل عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنما ذلك دليل على ضعف دينه ونقص إيمانه، لما ورد في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)).
وفي صحيح مسلم أيضاً من حديث عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون، وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)).

وهذا الحديث يدل على أن من ترك الإنكار حتى في القلب فقد انتفى عنه الإيمان.


6- ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إعانة للعصاة على المعصية:

من الطبيعي عند الإنسان أنه إذا أراد أن يقدم على عمل مستنكر في مجتمع من المجتمعات، فإنه بالتالي يحسب حساب ردود فعل ذلك المجتع تجاهه، إما بالعقوبة أو باللوم على الفعل. فإذا علم المقدم على المعصية في المجتمع المسلم ما سيلاقيه من النهي عن المنكر أو العقوبة على فعله، فإن هذا بإذن الله تعالى يكون رادعاً له عن ارتكاب تلك المعصية والسلامة منها.
أما إذا فُقِد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو ضعف، فإن المقدم على المعصية، أو تارك الطاعة، يمضي قدماً في فعله آمناً من الردع والعقوبة، وكما يقولون: ((من أمن العقوبة أساء الأدب)). وليس هذا فحسب بل إن العاصي يتدرج في معصيته من صغيرة إلى كبيرة فأكير... وهكذا، وكل ذلك لأنه لم يجد الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، فكان هذا إعانة للعاصي على الوقوع في المعصية.

7- اندراس معالم الدين وظهور الجهل:

إن قيام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المجتمع فيه حفاظ على معالم الدين، وسبب لظهور الطاعات واختفاء المعاصي والمنكرات، ولكن عندما يفقد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو يضعف في أي مجتمع، فإن معالم الدين تندرس شيئاً فشيئاً فتقل مظاهر الطاعات أو تختفي، ومن ثم ينشأ الناشئة في هذا المجتمع على عدم معرفتها والجهل بها.

ولو تأملنا في حال بعض المجتمعات التي تنتمي إلى الإسلام في هذا الزمن ممن لا يقام فيهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لوجدنا مدى ما عندهم من الجهل في أمور الدين، فهم لا يعرفون من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه. فربما جهلوا حتى أركان الإسلام، فبعضهم لا يعرف أن الصلاة ركن من أركان الإسلام مثلاً، وإن عرف ذلك، فإنه لا يعرف كيف يؤدي هذا الركن، هذا في شأن الصلاة وما سواها من باب أولى. بل أعظم من ذلك أن بعضهم ربما لا يعرف من هو نبيه. فقد سُئل أحد الشباب في مجتمع من المجتمعات المنتمية للإسلام، من هو نبيك ؟ فقال: لا أدري، أعتقد أنه عيسى !!!

واختفاء مظاهر الدين في المجتمع، وفشو المنكرات فيه هو غربة الدين التي أشار إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة (رضي الله عنه) قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ غريبا فطوبى للغرباء)).
كما أن غياب العلم بأمور الدين وظهور الجهل، وانتشار الفواحش والمنكرات من أشراط الساعة التي أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري من حديث أنس بن مالك (رضي الله عنه) قال قال رسول الله ص:(( إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويثبت الجهل ويشرب الخمر ويظهر الزنا)).


8- عدم إنكار المنكر سبب في فساد القلب:

القلب هو مصدر صلاح الجسد وفساده، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال ((ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)). وهذا القلب الذي يدير الجسد كله له مؤثرات تسبب صلاحه وفساده. ومن عوامل فساد هذه القلب وانتكاسه، وعدم تفريقه بين الحق والباطل، والمعروف والمنكر، هو ترك إنكار المنكر، فمن قصر في إنكار المنكر كان ذلك سبباً في فساد قلبه، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: ((تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا، فأي قلب أشربها[ نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين: على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادا، كالكوز مجخيا، لا يعرف معروفا، ولا ينكر منكرا، إلا ما أشرب من هواه)).

فالقلوب في هذا الحديث نوعان: قلب أنكر الفتن فلم يقبلها، فهو مثل الصفا في شدة بياضه من جهة، ومن جهة أخرى فهو صلب لشدته في عقد الإيمان وسلامته من الخلل، وأن الفتن لم تلصق به ولم تؤثر فيه كالصفا - وهو الحجر الأملس الذي لا يعلق به شيء-.
وأما القلب الآخر فهو القلب الذي لم ينكر المنكر، فتكاثرت عليه النكت السوداء حتى صار أسود مرباداً، منكوساً لا يعلق به خير ولا حكمة، وشبهه بالكوز المنحرف الذي لا يثبت الماء فيه.













شارك الموضوع

مواضيع ذات صلة

التسميات